المشاكل التقنية التي تعترض الباحث وهو على الميدان

tohv

إنّ مجمل الدراسات الإحصائيّة والبحوث السوسيولوجية في تونس والمغرب العربي عامّة لم تناقش أبدا مسألة تقنيات وأساليب البحث التي يجب أن تتوفّر لدي الباحث والطالب وهو فوق الميدان يجوب القرى والمساكن والغابات والجبال لجمع المعلومات . لم أكن أعلم أنّ جمع المعلومات مهمّة تضاهي قيمتها جمع الطين .

يوم قرّرت زيارة قرية سجنان التونسيّة لبداية رسم خريطة منهجيّة لي لغاية علميّة, ملأت نفسي شغفا قبل الوصول لنساء سجنان الحرفيّات المحترفات – وقد سمعت عنهنّ الكثير-… ازدحم كمّ الشغف بي, وصار قلبي في فمي يرتجف ويرفّ وينتج لعابا يتراوح بين الحرارة والّلزوجة .ارتجاج القلب في حلقي نتج عنه ارتباك فكري قبل أوّل لقاء لي معهنّ …أردت أن أظهر لسكان المنطقة في شكل امرأة ريفية كادحة قويّة وصامدة لكن بان عليّ الفشل في تقمّص دور المرأة الريفيّة وسقطت في أوّل اختبار لي, واكتشفت فور وصولي لأوّل نقطة من معتمديّة سجنان أنّه ليس من السهل على أيّ امرأة أن تكون قرويّة التكوين صلبة البنيان كادحة . ذات يوم من شهر ماي (مايو) المعروف بلزوجة هوائه المتناقض, بين رطوبة النسمة وحرارة الهواء, تجرّدت من بعض مسؤولياتي العائليّة المرهقة , إذ لا يمكنني السفر لأيّ مكان قبل التجرّد من المرأة المسئولة بداخلي . حملت في حقيبتي فستان سهرة أبيض وكعب عالي لونه أخضر وفرشاة أسنان حمراء مع زجاجة عسل صغيرة الحجم و دفتر ونسيت القلم وقتها… لم أكن وحدي يومها ويرافقني في رحلتي العلميّة صديق قدم من انجلترا “أمير العيّاري” ورفيقة جلساتي في المقهى ومع العائلة “سميرة الوريمي” وكلاهما مصوّر فوتوغرافي محترف. السفرة كانت تضمّ في الواقع ثلاثة خرّيجي المعهد العالي للفنون الجميلة. توقّفنا عند أوّل امرأة كانت تقف على قارعة الطريق الرئيسية المؤدية لسجنان وبالتحديد في منطقة الحشاشنة التي تقع على الطريق الرابطة بين تونس وسجنان .امرأة مسنّة أعطتني أوّل درس في معنى الصمود …كانت في عقدها السابع تقريبا و كان بنيانها صامد يوحي بالشموخ كانت هي واثقة الثبوت قدما على الأرض, والوشم طابعها وكنت في المقابل الموازي واثقة ألفا ومائة أنه لا يمكن إسقاط هذه العناصر الأنثربولوجية على الدراسة التي كنت بصدد تكوينها وتدوينها علميا في دفتري .

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ نظريّة الإستبيان تقوم بالضرورة على مقولة الفرد مصدرا للمعلومة .وكانت المرأة الحرفية في سجنان المعطى الرئيسي لبداية تشكّل أولى معطيات الدراسة التي بصدد البحث فيها . وسيلة الإستبيان(1) كطريقة لتقصّي الخبر والمعلومة, أثارت بداخلي عدّة أسئلة لم يكن لديّ متّسع من الوقت للتفكير فيها حينها أو لإيجاد إجابة مقبولة تشفي الغليل حيال مسألة هذه الطريقة في التدوين واكتشاف الخبر. السؤال الأوّل يهمّ هويّة المستجوب ومدى معرفته بطينة الأرض وتاريخها وطبيعة تاريخيّة هذه الحرفة المتوارثة التي تشكّلن منها أواني فريدة المذاق .وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ خصوصيات المجتمع في سجنان تجعل من تطبيق مبدأ اللإستبيان مسألة صعبة وربّما غير مبرّرة علميّا في غالب الأحيان .ذلك أنّ المجتمع الريفي بصفة عامّة وفي كلّ أصقاع الدنيا هو مجتمع زراعي فلاحي بالأساس يقوم على العائلة الكاملة مصدرا للإنتاج ووحدة للإستهلاك أيضا, وهو معطى يجعل من مجموع الأنشطة اليدوية المحلية التي تقوم بها العائلة, ومن الدخل الذي توفره, أشياء جماعية لا يمكن تقديم إحصائية تقريبيّة على الأقلّ .هذا المعطى لا يمكن أن يكون من الناحية النظرية إلّا مجرّد معطى نسبي نظرا للتغيّر الذي يطرأ على حياة الناس اليوميّة.

يوم تسنّى لي السفر لهدف بحث علمي, كنت طول مسافة الرحلة أفكّر في نوع الأسئلة التي سأطرحها على نساء سجنان الحرفيّات.هل ستكون الأسئلة ذات تصوّرات اجتماعيّة ؟؟ تاريخيّة ؟؟ أم سأوجّه مفردات كلامي مباشرة نحو خصوصية التجربة الفرديّة لكلّ حرفيّة .دوّنت بعض الأسئلة الموجّهة في دفتري قبل السفر وكنت مقبلة على الأمر بكامل الجديّة ولم أكن أعلم أنّ أسئلتي ستضيع وتختلط بالطين والماء وتصير لزجة كماء الحلزون أمام القيمة الحقيقيّة لقطعة الفخار التي تنحتها امرأة مسنّة لم تتعلّم ولم تقرأ في حياتها حرفا. امرأة تقطع أميالا سيرا على الأقدام لتنقّب على الطين وتصنع منه ثلاثة أواني وعروس من طين ونار, وكانون من فخار . فأيّ قيمة لأسئلتي العلميّة أمام قيمة هذه القطع الطينيّة المتشكّلة من لحم وتعب وعرق امرأة تسعى للجبال والشتاء يلفح جلدها لتحصيل لقمة العيش؟؟؟

في لحظة شغف بالبحث والسّؤال الذي ينتابني من حين لاخر في حياتي العلميّة الفكريّة, بدأت أجوب بعين وعقل إلى كلّ ما يحيط بهذه المرأة التونسية الواقفة على حافة الطريق.كنت واثقة أنّ كلّ شيء سيكون سندا لي واستبيانا لتقصّي الخبر من حولي وحولها. إلى ذاتها والطبيعة من حولها, إلى امتداد الطرقات وبيتها البسيط المحاذي للطريق و المكشوفة حجارته غير مرمّم, إلى أواني الطين المعروضة فوق كدس من الحجر, إلى الفتيات الواقفات معها في نفس المكان يتنافسن معها على بيع إنتاج الفخار لقمة للعيش. حتى ثيابها والوشم الأخضر بجبينها ومعصم يدها وتحت الذقن .كلّ ما يحيط بهذه المرأة كان بالنسبة لي مورد رزق علمي كنت بصدد تحصيله بعين كاملة, ونصف عقل, وذهن حاضر طول الوقت .حتّى أعمدة الكهرباء كانت بالنسبة لي حافزا مهمّا يجعلني ابني بدايات المتن للدراسة. هذه المرأة كانت لا تشكو حرارة الشمس ولا تملّ من رفع انية الفخار بين يديها عارضة إيّاها للبيع طول الوقت غير عاجزة وكلّها أمل في مرور حرفي قادم من تونس على طريق ماطر في اتجاه القطب السياحي الجديد في الشمال الغربي عين دراهم أو طبرقة .بين عمادة أمادن والحشاشنة وسيدي مشرق كانت كميّة البنزين في مخزن السيارة كافية للتنقّل. هذه العمادات الثلاثة, تمثّل الخصوصيات الأكثر أهميّة في المنطقة ونقصد المنطقة البلديّة سجنان. وسجنان تقع في وسط أقصى الشمال التونسي وتضمّ كذلك أقصى نقطة توجد في شمال القارّة الإفريقية, تطلّ على البحر الأبيض المتوسط وهي كاب سيرات. سجنان إذن هي المثال الجيّد للمناطق التونسية التي اشتهرت بصناعة الفخار وتميّزت بطابعها الفريد في هذا النشاط النسوي اليدوي المحلّي . إنّ طبيعة هذه المجتمعات الريفية تتطلّب منّي العودة إلى تقنية الإستبيان في جمع معلومات مصدرها نساء حرفيات يتقنّ صناعة الفخار فطريّا .هذه الفطريّة في الإنجاز هي في الواقع ميزة وليست عكس المعنى الذي نقول , غير أنّ نسبة الأميّة التي بلغتها منطقة سجنان كانت تفوق” ال 50 بالمائة وتزداد هذه النسبة ارتفاعا داخل أوساط الكهول بصفة عامة والنساء بصفة خاصة لتصل مثلا لدى ربات المنازل إلى حدود ال 80 %
إنّ مسألة تقنيات البحث عن معلومة شفهيّة تكون للباحث بمثابة الخيط الرابط بين ماض وحاضر وتكون له سرّ انطلاقة صحيحة لبناء نص علمي صادق تعتبر من أهمّ المشاكل والصعوبات التي اعترضتني خلال تواجدي في منطقة سجنان .لم يكن المشكل على مستوى التواصل لغوي أو فكري أو نفسي بل هو تقني بحت .

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*