“ثورة” عمياء ترعى الغنمات على سفح جبل …

 

يوم 17 ديسمبر 2010 شاب تونسي يضرم النار في لحمه .الّلحم أكلته النار 3 درجات تحت الصفر .ولا تزال الّلحوم فوقالجمر لليوم تُشْوَى . نصف لتر من البنزين وعود كبريت وبينهما فقر وقنوط  وظلم قدر  . حَرْقُ الجسد وإضرام النار على ما تبقى من فقر وحرمان فيه هو اليوم ظاهرة اجتماعية تعبّر عن حجم قسوة فئة من التونسيين أكل البؤس والذل ظهورهم فأشعلوا فيه نارا بكلّ حماسة وشر وسادية  . إنّ المقدم على شوي لحمه ،يتَّجه مباشرة نحو مقرّ الولاية التابع إليها  وهي المقرّ المكلَّف بتقريب الخدمات من المواطن وفي تسيير الشؤون المحلِّيَّة في تونس . أيقونة “البوعزيزي” صارت كتلة من نار تجوب المدن بعد مماته .  فأقدم سمير ومنير وقاسم وجاسر وحسّان وعبد القادر ومقداد حلى الانتحار حرقا من بعده ،ولم تقدم نرمين وفاطمة وصالحة على ذلك وخيّرن الإنتحار شنقا انتقاما من نفس ذات الفقر وعلل أخرى . “البوعزيزي” هو الجمرة التي أشعلت لهيب الثورة في تونس والفقر والإحتياج والعوز هم سبب اندلاع الثورة . ولا يزال الفقر بائع قردة ” يبع القرد ويضحك على من يشتريه ”  …طبيعة الفقر قاهرة  ضَنْوٌ حرام لا يرحم ولا يملُّ من العشرة …

“أنا فهمتكم … نعم آنا فهمتكم ..فهمت الجميع .. البطَّال والمحتاج والسياسي ومن يطلب المزيد من الحريات ” و”حزني وألمي كبيران”  هي  التوسّلات الأخيرة في آخر خطاب للرئيس السابق زين العابدين بن علي …فهم أبناء شعبه وهو يلفظ  في أنفاسه الأخيرة عند آخر لحظاته بقصر قرطاج …  كان هذا التونسي يرتجف في خطابه الأخير على قدر فساده . نعم كان هذا الحاكم ، فاسدا لكنه لم يكن إرهابي وبين الإرهاب والفساد ليس عندي خيار أخير الصنف الأول من الحكام طبعا رحل بن علي وليلاه غير مأسوف عليهما ورحلت أم البوعزيزي إلى كندا غير مأسوف عليها… وبقي الشعب . وما “يبقى في الواد كان حجره ” كما يقول المثل الشعبي التونسي …الجمرة تناسلت وأنجبت جمرات …واشتعلت النار لهيبا .وعاد الإخوان من المنافي على مطار قرطاج غير مرحب بهم  والخشوع يملأ الخِصِييّ والفروج  في ماء الخصيتين لا يوجد ربيع وزهور وتفاح بل تكفير وزوابع  وجوع وطمع وفستق غارق في كومة ديدان … الفستق بالعسل وديدان الفواكه الجافة  وصفة لتكبير الذكر وصيانة طوله وغلظه .وقد سعى البعض فور رجوعه من المنفى إلى فرض تعدد الزوجات …وختان البنات… وتجريم الفعل الإبداعي…ووقع كسر الحصار بين التونسي وحرية التعبير في” العبدلية “… وبدا التكفير يزرع بذره حبة حبة … وبدأ النشاز … وصراع التناقضات …وبدأت رحلة العذاب الفكري في تونس بين قوى رجعية و بقايا النظام السابق والمثقف المهوس بحرية التعبير و المبدع المتمرد  … وكان رجل السياسة والمعارض وشبه السياسي واليساري واليميني والاشتراكي والقومي واقفين طوابير مصفوفة في “باردو” أمام البرلمان ينتظرون كرسيا لهم في المدرج …

 

اليوم 6مارس 2017 مرّ ستّة أعوام على الثورة و ربع نيّف …هناك من جمع ثروة في هذه السنوات و شيَّد القصور واشترى آخر ما صدر من السيّارات العالميّة، وأراضي على البحر مطلّة  طوّقوها من الجوانب الأربعة علَّها تنفع وقت الشدّة كما نفعت آل الطرابلسي من قبلهم . وهناك من يلعن الثورة وينسبها باشمئزاز  إلى ” ثورة البرويطة ” أو “برويطة الثورة” .وثمّة آخرون يحتفلون دوريّا  ب “عيد الثورة” المجيد الموافق ل 14 جانفي من كلّ سنة ، حيث أصبح يوم عطلة يوازي في قيمته “عيد الاستقلال “. وعن نفسي فإنّي أجَّلت طقوس الاحتفال إلى ما بعد النكسة.

 

تونس الخضراء مجدها عالي دون ثورة …الثورة …الثورة…الثورة .هذا الكائن المشاكس هو أيضا لم يسلم من “لوبيات” القرن الواحد والعشرين …أما الشعب التونسي فكان حظّه بالحبر من أكتوبر 2011 إلى أكتوبر 2014 … غطّس سبّابته مرّتين في حبرٍ أزرق ،وكانت حمامة النهضة زرقاء عقيم لا تبيض . والشباب الذي قاد صفوف الثورة و مدَّ صدره ” للكرتوش” لم يفهم  أنّ إرادة الحياة يلزمها طول النفس لتستقر في مضجعها ،وأمّا عن الفقير الذي قلب عربية الخضرة متجهِّما مستنكرا للاّعدالة واللاّتكافُؤ  فلا يزال طفله عاريا حافيا محروما يلتقط ما يقذفه البطَّال وطالب الشغل من قوارير عطشه بين المزابل وفي الطرقات . الطّفل الفقير في تونس لا يعرف بعد من أيّ جهة تفتح علبة العصير ،ويفتح الغنيّ قنّينة الويسكي في اليوم مرّتين .مرة في السّهرة مع عائلته ومرّة أخرى بعد نصف الليل فوق سرير عابر مع عشيقة . واللّيل شاهد والفقير شهيد وللشعب والمثقف نصيب من العبث اليومي أمام شاشات الكمبيوتر و”التنبير” اللّيلي . ولازالت “سيدي بوزيد” و”سليانة” و”تالة” و”القصرين” و”جبل الشعانبي” تنعم بالألغام والإرهاب ولم تعد الرئاسة مدى الحياة …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*