في بلاد الرافدين سأضع طفلي بين النهرين

%d9%81%d8%ae%d8%b9%d9%83

امرأة حُبلَى أنا من يوم سالت أولى قطرات الدّم فوق أعمدة مَعْبَدِي وعند حَوْضِي ما بين النهرين .مَعْبَدٌ قُدُسْ تمْلكه كلّ نساء الأرض ،مسلمة مسيحيّة ويهوديّة ،سقفه مطليّ بالأحمر والدّم يجري فيه كلّ شهر فُسيفساءَ وما من مخاضٍ .سألبس لكم قرّائي الأحباء اليوم قميصا ،لا يشبه قميص الملكة بلقيس ملكة سبأ، ولا رداء يسوع(ع) الغير مُخَيّط الذي نسجته مريم البتول(ع) بيدها لابنها، ولا ثياب الملكة اليهوديّة أستير،زوجة ملك الهند أحشويروش ،ولا لحاف أمّ المؤمنين عائشة (ع) المسلمة ابنة أبو بكر . كلّها ثياب لفّ تاريخها الغموض . قميصي اليوم منسوج من قطعة واحدة مسكوبٌ برائحتي وعرقي.الكلّ يسكر بِرِيحِ قُدُسِهِ ونبِيِّه وأنا سأسكر معكم على نفس الطّاولة بريح “عَرقِ” الإنسان حتّى لا أغيب مطوّلاً في غُمرة زحام الحروب الطائفيّة  التي احتوتنا جميعنا فشرّدت وعرّت وجوّعت وشوّهت وأحرقت وذبّحت  . سنسكر جميعنا “مقاومة”،ونشرب “عرقا” من التوراة والإنجيل والقران عصارة نبيذه، وبين ريح العرقِ والعرقْ ستمرّون كلّكم بخيالي فأحبل للمرّة الألف وربّما أنجب لنا يتيما مصلوبا فوق نجمة داوود ماسكا بيده هلال…فربّنا واحد وما هذه الرّموز سوى شفراتُ موتٍ فرّقت بيننا .لم يعد يهمّني بعد اليوم علاقة النّجمة بالهلال بالصّليب ما يهمّني هو ذلك “العهد” الذي حدّثنا عنه إبراهيم (ع) وكان اسمه قبل أن يدخل الإسلام “ابرام”. عهدٌ مَعْبَدُه “الإنسان” .

نعم أيّها القارئ خذ بيدي أينما كنت موجودا، أريد أن أحبل منكم جميعكم بمختلف طوائفكم ومذاهبكم بطفل يكون لنا الوطن الواحد فأنا “فاطمة” كاتبة النصّ مسلمة ابنة”سارة” وابني الصّغير يُدعى “يوسف” والبِكر اسمه مركّب “محمدعلي” كلّما لمحت صورة أمّي نسيت أبي وتذكّرت إبراهيم (ع) زوج سارة اليهوديّة وابنه إسحاق…وحين يرمقني ابني يوسف بلون عينيه الغريب بين الزُّرقة والخُضرة أضيع فيهما وأسكن في عيون يوسف(ع) ابن يعقوب نبي الله فأتمنّى لو كنت امرأة العزيز فأراوده عن نفسي كما فعلت “زُلَيْخَة”. وفي أعماق “محمد علي” ابني البكر أَجِدُنِي أغرق في ذكائه المقدّس فأسْتنجد بيوسف ولدي الصغير وأَدْلوا بدلْوي في جماله الخارق علّني استعيد نفْسِي الضّائع منّي في غَمْرَة الأسماء المقترنة بنور النبوّة والأنبياء وبين “محمد” (ع) و”علي”(ع) يسرقني الحسن والحسين من وطني تونس لأسافر عبر الأقطار إلى كربلاء في يوم عاشوراء المجيد، ….نعم هل تعلم أيّها القارئ أنّ في يوم عاشوراء  يرقص اليهود ويفرحون ! يبكي الشيعة ويلطمون !  يصوم أهل السنة ويستغفرون!.كلّها طقوس نمارسها ثم نعود لنفس المهد ، للكرنفال الطائفي المذهبي الذي احرق فينا ذلك الإنسان .بين النهرين ،سأنجب لكم الّليلة مولودا ذكرا يحمل في جيبه خاتم النبوؤة ،ورغيف خبز دقيقه دعوة إبراهيم ونبوءة موسى وترنيمة داوود وبشارة عيسى …

 حُبلى أنا من يوم مسكت أمّي بيدي بشدّة لتعلّمني قانون طبيعة الحياة . هي علّمتني كيف أحافظ على رغيفِ خُبزي لأصعد به إلى السّماء شريفةً عفيفةً طاهرةً طيّبة ولم تكن تفكّرأنّ على هذه الأرض ما يكفي من بطونٍ ولقاحٍ لتفريخ البُؤس والبشاعة والخيانة والحرب والطائفيّة لاغتصاب هذا الرّغيف الطّاهروأكله باردًا وساخنًا وبين البين نيّئًا .رغيف الوطن يا أمّي، ليس من بعده رغيف .يسْهلُ أكلُه ويَصعَبُ على الغريب هضمه…كَبُرتُ وكبر بداخلي رغيف الخبز …”خبز وماء ونبيذ حياتي”  فهل هناك رغيفٌ أغلي وأشرف وأطهر من رغيف الوطن ؟ وهل يمكن لجميع خَبّازِي الأرض وصانعي الرّغيف من طهيِه دون دقيق؟ على طول عدد أشهر السّنة منذ بلغت الرّشد وأنا أمارس حبّ الإنسان في خيالي في باطني الملفوف بغشاء بكارة وهميّ …أَحْبل في الشّهر مرّة كلأرنب وينتفخ بطني وتزول عنّي عادتي ،وأظلّ أنتظر موعد الولادة وأقاوم وأصعد التّلال وأنزوي تحت جذوع النّخل ،ولا يحين موعده ويأبى أن يتحرّك الجنين ليسقط بين النّهرين. ولا أخفيكم أنّه في كلّ مرّة يأتيني المخاض فيشتدّ الوجع ويختلط الماء بالدّم، فأنسى كلّ الخلافات بين المذاهب والملل والطّوائف والحنبليّة والمالكيّة والشافعيّة والحنفيّة ولا يراودني غير صورة الوالدة واقفة أمامي في أبهى حلّة .الوالدة هي الوطن . تُرى كم يلزم للطائفيّة والتعصّب المذهبيّ التي تعيشها الأمّة من عام لتغسل نجاساتها ؟ نجاسة طائفيّة قديمة قدم بابل بالعراق ؛ وولادة نجاسة حديثة العهد بسوريا بلد الألف نبي ونبي…

بلادُ الرّافدين بالأمس وبغداد اليوم أسطورة واحدة تقف عند مدوّنتي . ويقع العراق في منطقة ما بين الرّوح والقلب ،حيث العالم ينتهي عند شفتي المدوّنة . وحيث تمكّن الملوك والحكّام من تدوين رغبات الآلهة بدماء الفقراء فوق لَوْحِ الطّين الّلزج .تغيّرالتّاريخ ولم يتغيّر تاريخ الحكّام والملوك .لا يزالون يسدّدون الطعنات في خصر الفقراء .بلاد الرافدين هي في الأصل الفردوس العراقي المفقود، وأصوات الآلهة إنما هي طقوس تَوَدُّدٍ دوّنها ملوك سومر وسار خلفها جلّ الحكّام العرب .تَودُّدٌ للآلهة المتعدّدة الأديان وللسّماء التي تمطر خيانة ورياء… والعراق كما نعلم هو بلد لم تصنعه الأساطير فحسب بل صنعه الأنبياء أيضا .يونس (ع) ونوح (ع) وإبراهيم (ع)؛ أنبياء عملت على إزاحة الميثولوجيا ولم تدعو لتكسير دمى الطين وحرق الشعب العراقي وسرقة رغيفه من على مصاطب التاريخ…إبراهيم عليه السّلام لم يحرق الآلهة ،لأنّه كان يعلم أن أهله وعشيرته يعبدونها ويفكّرون بها وكانت دعوته للتوحيد سلمية؛ ولم تكن دعوة توحيد العراق مع شعبه اليوم سلمية أبد وكانت حربا طائفية “لا تُسْمِنُ ولا تُغْنِي من جوعٍ” . فلم لا تُنْزِلْ علينا السّماء نبيّا يكون السّيف المسنون والحدّ الفاصل لرغبات ملوكٍ وحكّامٍ لا يزالون يتودّدون للآلهة المتعدّدة الأديان ويَفْقِسُون أعين الفقراء لأنّ دينهم ليس واحد . إنّها المثليّة السياسيّة بعينها يا “يوسف” لا تشبه المثلية الجنسيّة لكنّها عبارة عن نفس الواجب والرّغبة.جسد واحد وعضو مماثل متشابه يرغب في التناسل والإفراط في أكل لحم لا ينجب له سوى رغبة زائفة زائلة لا تحدث رعشة ولا تزلزل خريطة ولا تحبط عمليّة إرهابيّة تكاد أن تبيد العراق اليوم.

أيّها الطغاة الم يأتيكم نبأ الإنسانيّة بعد .اتركوا كتبكم المقدسة ،واحفظوا ما انزل فيها من آيات وأبيات شعرٍ  وقدِّسوا الإنسان. كلّ الكتب السماويّة واحدة. لو جمعناها ثلاثتها عند منتصف السماء، لانشقّت الأرض ،وانهارت الجبال ،وتهاوت أسقف وأعمدة  الجوامع والكنائس والكنيست اليهودي ولتمّت إعادةُ تَجديدٍ وإعمارٍ لمعبدٍ واحدٍ يوحّد الإنسان، بكلّ طوائفه وإيديولوجياته وألوانه وأعرافه وأعراقه .في الكتب الإبراهيميّة الثلاث لا توجد آيات تدلّنا على موقع جغرافيّ للسّماء ،والسّماء كما علّمني والدي هو المكان الذي يوجد به الله . إنّها “السّماء الثالثة” أو ربّما “الرّابعة” أو علّها تكون “الخامسة” أو “السّادسة” أوقد تكون “السّابعة” وهي أيضا “الفردوس”  هي ملتقى الإنسان كما خلقه الربّ إنسان بعقل ونصف آخر. ذلك النصف ليس نصفًا عبثًا أو اعتباطًا أو تلفًا … هو نصفٌ بيننا  يؤلّف يفرّق ويجمع .فيه جحيم نسكن فيه وجنّة ليس لها عنوان …الجحيم والجنّة أسماءٌ أسقطناها على أماكن لم نزرها يوما ..نعم .نعم.نعم …لا تخجل أيّها القارئ من وضاعة تفكيري وخروجي عن المألوف المستصاغ …فأنا امرأة تعيش طول الدّهر حُبْلى منتفخة البطن تعاني عسر الهضم والرّبْو؛ تبحث عن مكان بين النّهرين لتضع فيه روحُ نبيًّ لم يُخلق بعد .نبيٌّ يسْعى لتوحيد الإنسان كيفما كان وأينما خُلق ومثلما تشكّل لونه وجنسه ودينه .فما من أحدٍ اختار دينه أو لونه أو جنسه وما من مخلوق اختار أباه وأمّه .والعراق كما لمحته عن قرب منذ بدايات تفتّحي السّياسي والفكريّ عبارة على قطعة رغيف مبلّلة بالشاي الأحمر والسكّر .شاي وسكّر ورغيفُ خبزٍ، والنّمل حوله يمتصّ العسل تاركا هيكل الرّغيف جافّا .ألمُ المخاض يزداد، وضربات الجنين اتسع لها الجرح بين فخذيّ، والدّماء اختلطت بسائل أبيض شفّاف لزج شربت منه جموع النّمل المتراكمة حول رغيف الخبز المبلّل شايا وسكّر …جموعُ النّمل تحاور نبيّ الله سليمان بن داود، وتتوسّله خيفة من جنوده على الأرض … والشّعب العراقيّ من النّجف لكربلاء ،وصولا للموصل مرورا ببغداد ،يستنجدون بأيّوب (ع) صَبْرًا، ويحاورونه عن مقدار الألم الذي تصنعه سِياط الحُكّام ورغباتهم الطّائشة .وأنا اشتدّ بي الوجع وَيْلاَتٍ بين كنعان والجولان وسبأ ،مثلّث التّاريخ الصّحيح لأولى الحضارات الإنسانيّة .صيحات الطّلق الأولى حدثت معي الّليلة هنا في المثلث الحضاري المحصور بين مصر والشّام والعراق .الجرح يتّسع والألم يزداد ككتل ثّلج ومعها صخر يشتعل ،وكلّما أوغلتُ سيْرا بأقدامٍ حافية في أراضي بلاد الرّافدين، تفاقمت محنة الألم وتكاثرت من حولي أصوات مجهولة تناجي اضطهاد الامتحان الإلهي …وصورة أيوب (ع) ارتسمت بأعماق رحمي ،تعكس لي نظرة التمرّد ضدّ هذا الألم … انفجر كيس الماء متدفقا …إنّه تحريضُ المخاض …تقلّصات تتقارب فتراتها ،ولكنّها سرعان ما تتوقّف .ضاقت حنجرتي ،واختفت من شدّة تحمّل الوجع وصارت تغنّي كالمزمار. الطّلق يتدفّق ويتدفّق …تفتّق الجرح ثمانية سنتمتر ،فناديت بأعلى صوتي  وردّ الصّدى إجماع …يا علي …يا محمّد …يا يسوع لا أحد يستمع إليّ في هذا الكرب العظيم …زمّلوني زمّلوني بُحَّ صوتي وشُلّ طرفي . آلامٌ في الحقيقة تعكس المعاناة على الوجود الآني لحضاراتنا …ويمكن أن نضع من واقعِ تجربة الإنسان العراقي منذ إعلان الحرب عليه وما تعرّض له على مستوى الألم في الحصار المفروض عليه اقتصاديّا ونفسيّا وثقافيّا . اقتربوا جميعكم ،التفوا حول الجنين الذي صنعته لكم من رغيف خبزٍ حافي .زمّلوه ودثّروني، فقد مات نصفي السفلي وجعا .اجتمعوا حولي ومولودنا ،ولْنَنْسَى قدوم المهدي المنتظر ،والمسيح الدجّال ،و المسيا (الممسوح من الله) في المستقبل ليجمع اليهود مرة أخرى إلى أرض إسرائيل…فلا اليهود سيجتمعون ولا العرب المسلمون سيتّفقون ولا المسيحيون سينتصرون ….وحده الإنسان سيفوز بالفردوس. وجنّة العراق قادمة لا محالة ،وسوريا على دربها وأرض كنعان واليمن السّعيد أرض الجنّتين …يومًا ما فقدنا الوَجه الأندلسيّ في زحمةِ تشرذمنا وتفكّكنا فهل سنفرّط في العراق والشّام واليمن طالما أنّ الزّمان يعيد نفسه والعدوّ هو العدوّ والحالة هي الحالة .

 

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*