عشاء فوق مائدة الملك النوميدي يوغرطة

friguia
هناك بعيدا فوق آخر شُرفات جبل الدّير… وفي حضن مناخ يحكمه مزاج متقلّب يتأثّرتارةً برطوبة هواء المتوسّط وتارةً بهواء الصّحراء الجافّ .هناك على رصيف الصّبر وعلى ضفاف الترقّب في أسفل الخريطة تسكن “الكاف” عاصمة التلّ الغربي التّونسي أرض حُبلى تحمل في بطنها بقايا مدينة رومانيّة وأخرى نوميديّة . مدينة لا تزال صاحية في ذاكرة الزّمن المرّ. “كافها “لا تزال مرفوعة في عمق التاريخ محفورة بين ثنايا التربة .”كاف” مستيقظة من تحت ركام الوجع الوطني .هي إن شئت سمّيتها ” سيكا ” كما أوردها المؤرّخ اليوناني “بوليب” أو هي”فيناريا” عند الرّومان وإن شئت فاجمع الّلقبين فيصير اسمها “سيكافيناريا” .الكاف” اليوم منطقة يشهد عليها جبل وعر المنحدر وتشرف على سهول سيكافيناريا” الماضي وهي سهول “السّرس” و”زنفور” و”الأربص” .موقع جغرافي استراتيجي متميز يشهد عليه الجغرافي اليوناني “بطليموس” (القرن الأوّل من ميلاد المسيح) وكذلك دليل “انطونيوس”
(خريطة للطرقات الرومانية ).
يارباس وماسينيسا ويوستسنيوس و مكيبسا وغيلاسا وماستانابال .هم ملوك تعاقبت على نوميديا ليأتي من بعدهم القائد العسكري العظيم يوغرطة ونجده الجبليّ. وهذا النّجد تجسّد في مائدته المشهورة المنصوبة في أعالي جبال الكاف العالية … حصنٌ معلّق في السّماء بمساحة 80 هكتار وعلوِّ 1272 م.
هذه الجزيرة المعلّقة لمحتها على بعد كيلومترات من على فوق صور القصبة بالكاف … لمحت مائدة القائد يوغرطة دون أن أقطع الدّرجات المائة وسبع وأربعين وكان لا بدّ أن أعود إليها لأنّها معلم فريد يروي لنا الوجه الآخر للتاريخ التونسي ,معلم يثبت على نوميديا ويشهد على أسطورة الملك المغدور .مكان حصين معلّق في السّماء مثل عشّ النّسر… وأيّ عشّ وأيّ نسر… عش يحمل في سفحه كنوز وأساطير يوغرطة الدّفينة إلى اليوم …مغامرون ولصوص وخبراء آثار ومشعوذين حاولوا فكّ شفرات المائدة على مدى القرون ,حاولوا النبش في مائدة الملك وحولها, ولا أحد منهم فاز بشيء سوى الضّنى والخيبة .واستمرّ سحر الأسطورة الحقيقيّ في تأثير هذه المائدة العملاقة في تاريخ تونس الحديث,مائدة تحصّن بها يوغرطة ،ثم احتمى بها هربامن الفاتحين المسلمين. ومع مرور القرون أصبحت المائدة ملجأً لكلّ من يخرج عن السّلطة ،وقد احتمى بها منذ زمن بعيد والد ابن خلدون مع الأمير الحفصي.
على سفح هذه المائدة لا يُنصب الطّعام ولا الأكل والشّراب والغلال ولا تقام فيها الولائم .وسط المائدة نجده محشوّ بتاريخ كامل .حصونٌ وقلاع ومعابد ومنازل ومدارج ومرتع للخيول, ومغارات وكهوف مكيّفة طبيعيّا ،ومواجل لجمع مياه الأمطار واستغلالها للشرب . وبيوت مبنية وسط الصخور وأبواب منقوشة .بيت للعروسة والعريس تقام فيها الطقوس والعادات . والصّخور ليست كأيّ صخور، هي صخور من الجرانيت يحلوا للحلزون التزحلق فوقه .و”الحلزون” على الطريقة النوميديّة كانت طبخة وأكلة الملك يوغرطة المفضّلة ، ولا تزال البيوت والمعابد محصّنة إلى اليوم يحرسها مقام الوليّ الصّالح سيدي عبد الجوّاد الذي ورث المكان ولا حرم الله وارث … وقعت في حبّ المائدة من بعيد وكان كلّ شيء يغري بالاستمرار في الصّعود ، لنترك جانبا مائدة يوغرطة وأساطيرها وصخورها الجرانيتيّة ولنعود أدراجنا لرخام شمتو المتعدّد الألوان …ثم لنواصل السّير معا نحو “بلّاريجيا ” ويفصلهما عن بعض سوى 16كلم .

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*