“بَرّْ فْرِيقْيَا”هي نوميديا الأمس تونس اليوم

fri5

 

مفهوم “برّ فريقيا” كما ورد على لسان المؤرخ التونسي “عبد الحميد لرقش” هي عبارة وليدة عصرها وردت من باب تصحيح المفاهيم ولمزيد الوقوف عند حدود المعنى …والمفاهيم تتغير كما نعلم ولم تبنى يوما على الثبات والاستقرار تاريخيا وعلميا وانطولوجيا وانتروبولوجيا …و”برفريقيا”إنما قصد به أستاذنا برّ يخص كامل الجهة الشمالية الغربية لتونس برّ يحاكي “النوميدية” في شتى امتداداتها وأسلوبها وأشكالها وأنماطها وتراثها وما عليك سوى عقد النية بجاه “سيدي بو مخلوف” و “للّا منى الكافية” سأحول دائرة البحث مباشرة من جندوبة وشمتو وبلاريجيا إلى الكاف وقصبة الكاف وبازيليك الكاف وجبالها العالية وتحويل الوجهة لا يعني الخروج عن “البرّ” إذ لازال الوصف والحديث متواصل في”برّ فريقيا” و”افريقية ” هي في الأصل مقاطعة رومانية أو هي مصطلح أطلقه العرب في العصور الوسطى على الجزء الذي فتحوه في مقاطعة أفريكا الرومانية وهي تشمل أساسا تونس وقسنطينة بالجزائر وتريبوليتانا الليبية … في جهة الكاف سينفتح الطريق من جديد على كهوف التراث عن مساربٍ ونتوءاتٍ شمالية غربية تونسية تلتحم بتجاويف النفس عبر خطوط تاريخية متواصلة …وفي تلك الخطوط يرتسم ذلك الوجه الذي يدعوني لإعادة الرؤية من فجوات الجبال جبال الكاف العالية التي تطوي مسافات الحكايا… لم أكن وحدي في تلك الخطوط بل كان معي فريق أكاديمي كامل باحثين في مجال التراث ومؤرخين وأساتذة في مجال الآثار وطلبة ماجستير…وكان هناك دليل يدفعنا للنزول إلى الفج …وقد كان الدليل جاهزا يهمس لنا أن المتاهة تغري بالاكتشاف وان ذلك الطريق الواعر ينبسط أمام الرغبة في اكتشاف تشعبات الجبل من جديد… والكاف إنما هي تطل علينا من اعالى جبل الدير كما ذكرنا سالفا …في مدينة الكاف كل المنافذ تنفتح على كون جديد وعتبات مختلفة … منافذ تجهض الخوف من تلك التفاصيل المتخفية… وعتبات تحملك إلى فضاء أخر يختلف عن البقية فضاء اسر بصمته وسكونه واعمدتة المرئية وأروقته إذ يبدو “البازليك” للناظر منذ الوهلة الأولى وكأنه كنيسة مسيحية
من البازليك عدنا من جديد إلى طين البدء إلى الأرض إلى الحياة والممات ويقول عالم الآثار التونسي” فتحي العابد” بان “المسيحية هي من حررت الأرض” آنذاك …في هذا البازليك أفرغت الصورة من الصوت … شردت قليلا وخرجت عيناي تبحثان في إحدى زوايا المعبد عن صورة ناسك أو كاهن يتأمل داخل البازليك …هي فكرة آثمة تطمس الروح وتستجلي الحدث وتستنجد بالمكان عله يخبرها المزيد عن هذا التاريخ .تاريخ شمال غرب تونس …وسالت البازليك عن مفاتيح تلك الرموز المغلقة ولكنه لم يكن يفسر لي الرموز بقدر ما كان يطلب مني أن أتتبع الخيوط الرابطة بينها …وذلك الطقس الحاضر بين تلك الترميزات …طقس يستعيد في مخيلتي حكايات المدينة …وتلك المرأة العجوز البربرية التي تقود القطيع في الجبال وهي تلبس ملية قديمة وكأنها ورثتها عن إحدى جداتها …وان ما بقي من صدى في نفسي تلك البدائية التي تتمرد على كل ماهو حرفي وصناعي… وأردفت أقواس البازليك قائلة “جردي كل ما بقي في ذهنك من صور ومعان لتحلي هذه الرموز …” تذكرت في لحظة أنني حقا في الشمال الغربي لتونس منطقة لم تكن ابدا معزولة منطقة جمعت بين الكنائس والمعابد والمسارح والمقابر والأحواض والحمامات و أقواس النصر والمقامات الصالحة للتبرك وتقديم النذر … على هذه الأرض كان هناك تعايش بين الرومان والنوميديين وهناك شواهد على وجود ارستقراطية رومانية وعلى تعدد الآلهة رومانية وإغريقية وافريقية و”معبد مسيسا”…  سألت نفسي للمرة الأخيرة وأنا أغادر البازليك ما أهم الّلقى التي تتشارك فيها بلدان المتوسط شرقا وغربا من حيث التراث والعادات والتقاليد … رد الصدى أنّه بإمكاني أن أرحل بين هذه الرؤى في روما واسبانيا ومصر … وأسال عن التراث لآخر مرة تراث الكاف وهو تراث في خدمة المدينة…تراث يتلخص في “الزاوية الرحمانية” و”زاوية سيدي بومخلوف” و”الغريبة” المعبد اليهودي… تتوحد بذلك “الأرض” مع “التراث” ويصنعون مفهوما جديدا للدولة …للهوية مفهوم تتوحد فيه الذاكرة الجماعية…

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*